في محاولة لم يستبعد فيها الفنان احتمالات عديدة، يبقى النجاح بالنسبة له محاولة لتحيق فكرة المعرض وإخراجه بصورة لائقة ما أمكن، في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها وطنه سورية، لكنها وعلى حدّ قوله : «تبقى مساهمة خجولة في تلك النشاطات الثقافية التي يحاول البعض إقامتها في دمشق، مغامرين بأرواحهم ليلقوا قصيدة في مقهى ما، أو يلعبو دوراً في مسرحية أمام جمهور قليل، نشاط يقارع الدمار وبشاعة ما يحدث، في النشاط حياة كما "في الحركة بركة"، تستحق هذه المدينة أن تبقى حيّة على مدار الساعة، كما يستحق شبّانها جهداً صغيراً، وهكذا يصبح للمعرض جدوى.. ربما ؟!».
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
يبقى الشكّ قائما لدى الفنان بطرس المعري من جدوى، بل من نجاح فكرة المعرض، وخاصة أنه يراقب عن بعد - وإن بدقّة - تفاصيل ما يحدث في بلده ويعقّب عليه من خلال موقع التواصل الاجتماعي «الفيسبوك» الذي ينفي عنه صفة الافتراضي ويعتبره مساحة مثالية للتعبير عن خواطر وأراء كل منا حول ما يحدث في العالم، فكيف إذا كان كل ما يحدث محوره سورية وهدفه خراب كل شيء فيها وخاصة العقل البشري والمقصود هنا بخاصة شريحة الشباب منه،
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
لتبقى تلك الخواطر مبرّرة منه وإن جاءت على عكس ما توقّع، فقد حقّق المعرض حضوراً ونجاحاً لافتين بكل المقاييس بسبب الاهتمام الكبير الذي أولته الإدارة والمنظمين للمعرض وحرصهم على التواصل مع معظم المهتمين وأصدقاء الصالة من متابعين ومهتمين وإعلاميين ومقتنين، رغم كل الظروف بما فيها الأحوال الجوية التي أدت إلى تأجيل الافتتاح لأيام .
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
والأهم في هذا المعرض ما احتواه من أعمال ولوحات - والصغيرة منها بشكل خاص - التي جاءت على شكل خواطر وتجليات بما تتضمّنه من شرح ونصوص، والتي يمكن توصيفها أحياناً بالثرثرة البصرية الممتعة رغم مرارة الموقف في كل منها على حدا، بالإضافة إلى المفارقة التي أحدثها الفنان بين المُبكي والمُضحك في نفس الحدث والسيرة التي ابتكرها أو أعاد إنتاجها من جديد مسقطاً محتواها والغاية منها على ما هو حاصل اليوم من تفاصيل مؤلمة في حياتنا بكافة جوانبها ومنذ أربع سنوات،
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
بعد متابعة دقيقة لها وإن من مكان إقامته بهامبورغ – ألمانيا، مستفيداً إلى أقصى حدّ من الميزة الإيجابية لمفهوم «العالم قرية صغيرة» والتي يصفها البعض بأنها اختراع سيئ الذكر للقوى العظمى أسموه العولمة، ومن خلال صفحته على الفيسبوك - الذي ينفي عنه صفة الافتراضي - ومنذ ما بعد بداية الازمة بقليل أي منذ العام 2012 وإلى اليوم مازال يسجّل يومياته وردود أفعاله على ما يحدث في سورية على شكل صراخ وبصوت عال وجريء إن بالرسم أو التعليق مستدركاً ومنبهاً إلى خطورة ما يجري على مستوى العلاقات الاجتماعية والشرخ الذي يمكن أن يحصل في المجتمع السوري،
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
وهو من نبّه له وتنبأ به من خلال رسوماته قبل الأزمة، وهذا ما تطرّق له النصّ الذي قدمت فيه صالة تجليات للمعرض : «لنعد إلى أعمال المعري عام 2009 عندما تنبأ بما يمكن للسيوف والسكاكين أن تفعله بالرقاب وها هو يكاد لا يصدق ونحن معه أن هذا الأمر قد حدث في سورية، إلّا أنه في العام 2012 في نفس صالة تجليات قدم معرضه بعنوان «تجليات في أوقات الفراغ» بأننا شعوب من الأبطال والبطولات على كراسي المقاهي ومنذ سنين طويلة لا يشغلنا إلّا عنترة وجسّاس والحروب غير المفهومة التي يرويها الحكواتي، نجلس ونستمع إليها منذ مئات السنين، ومن يومها لم نفعل سوى نفث دخان الشيشة وشرب الشاي الثقيل».
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
بعيداً عن الموضوع والعنوان؛ «3 سنوات من ممارسة الفيسبوك» برأيي يبقى أهم عامل نجاح حققه الفنان في هذا المعرض - تشكيلياً - كما في معارضه السابقة، هو تمكنه وبثقة من الاستفادة من جماليات التضاد على نفس السطح في عمله الفني، محققاً حالة التناغم بين مكوناته بما فيها من عناصر جذب بصري مختلفة كالإضاءة الشديدة المسلّطة في منطقة الأسود، أو اللون الصريح الذي يضعه بجوار الرماديات الداكنة،
جانب من حفل افتتاح معرض التشكيلي بطرس المعري في غاليري تجليات
هذا بالإضافة إلى تكوينه المتحرّر من قواعد الجاذبية والمرجعيات الأكاديمية المتعارف عليها، لحضور أرشق لشخصياته في الوسط ومقدمة المشهد، مثل «الحكواتي» أو أي شخصية رئيسية يعتمد عليها الفنان في تقديم الفكرة التي يسعى إلى إبرازها من خلال اختزاله الرسم مفصّلاً أكثر من خلال اعتماده على السرد الأدبي، وهذه بحدّ ذاتها تضيف قيمة إلى الغرافيك كمؤثرات بصرية على الورق أو خلافه من المواد في العمل «تصوير، موتيف، أو غلاف..إلـخ»، وبنفس الصياغة أو الأسلوب الذي بات يميّز لوحات الفنان المعرّي، «الحفّار» بالأصل قبل أن ينحاز في لوحته إلى التصوير بتقنياته المختلفة.
جانب من المعرض
في هذا المعرض الشخصي العاشر للفنان بطرس المعري والذي ضمّ نماذج من تجربته التي خصّ فيها صفحته على «الفيسبوك»، نلاحظ اعتماده على تقنية الأسود والأبيض وعنصر الرسم الذي كان أساسياً في تجسيد الحدث أو إعادة تركيز الإضاءة عليه من جديد من خلال إسقاطه للقصص والحكايا الشعبية على ما أحدثته الازمة السورية من انعكاسات على الشارع والمجتمع اليوم في سورية وعلى المواطن البسيط الذي لا حول له ولا قوّة مما يدور حوله وفي العالم، هذه المجموعة من اللوحات، أو حتى في غيرها من الأعمال التي يستخدم فيها الكولاج بإضافة بعض الصور لمقاطع من لوحات عالمية أو صور
جانب من معرض التشكيلي بطرس المعري في غاليري تجليات بدمشق
فوتوغرافية ودمجها مع السطح ليغني من خلالها بعض المناطق من اللوحة تقنياً بالدرجة الأولى وليزيد في نفس الوقت من حيوية المشهد بإشغال الفراغ بأشكال لطيفة ومفيدة لموضوعه، وهي تتضمن بعض اليوميات على شكل فانتازيا بصرية خفيفة تحمل بعض التفاصيل والكتابات لمزيد من التوضيح، وهذه المساحات التي تحتوي على الكتابة قد تطغى كحيّز على الرسم الذي يتحوّل إلى موتيف مرافق للنصّ، وأحياناً يتقاسمان المساحة في الأهمية بحسب الحالة التي أراد إيصالها الفنان لمتلقيه،
جانب من حفل افتتاح معرض التشكيلي بطرس المعري بغاليري تجليات بدمشق
وبالتالي نلاحظ انحسار وجود الدراويش التي كانت مسيطرة على لوحاته في معارض سابقة والتي حلّ محلّها هذه المرّة أشخاص بسطاء وأحياناً أبطال لحكايات شعبية ربما ابتكرها الفنان أمثال «قصّة أبو فهد والكنز، أبو لميا والذئب، وغيرها من العناوين المفترضة للوحات عديدة مثل؛ ماما أنا خائف، المتديّن بمعنى المُقترض، عندما أصبح غريباً، سعد ذبحَ، العتّال، المسيح السوري يُصلب مرّة ثانية،
جانب من معرض التشكيلي بطرس المعري
هنا دمشق من هامبورغ، وغيرها من الجمل الأدبية المتنوعة والموحية بحدّ ذاتها»، إن هذه العناوين ومن غير رسوم توضيحية تبقى تدلّل على بعض الحدث فكيف إذا رافقها عمل فني مكتمل المقومات ..؟ لابدّ هنا وللإنصاف من محاولة تفهّم القصد من العنوان إن كان بالنسبة إلى المعرض أو لكل لوحة فيه بما تضمّ من محتوى فني وأدبي كمشروع متكامل حتى تتضّح الصورة والغاية أو القصد.
جانب من المعرض
«3 سنوات من ممارسة الفيسبوك»، هو بالنهاية محاولة مجتهدة من الفنان لاكتمال مسعاه الذي بدأه بحماس والذي لا يقتصر على مجرد تقديمه لوحة، أو حالة نتشاركها معه، إنه في ذلك يحاول تحريض الآخر الذي يرى أعماله لدرجة التفاعل، إن المعرّي لا يتعامل مع الآخر باعتباره متلق، بل جزءاً قادراً على التغيير في مساره الفكري الذاتي بالحدّ الأدنى ولا يستهدف العين وحسب بل أكثر من ذلك، وليست السخرية التي نراها في أعماله إلّا نوعاً من الاستفزاز الإيجابي للخروج من هذا الركود أو ذاك، ولا يصور الحدث كما هو، بل يحلّله ويحيله إلى صورة، وقد يجمع الصورة مع الرسم بتقنية الكولاج ليقدم الحالة، اللوحة في نهاية المطاف عند المعري هي فعل متحرك وجدير بإثارة العواطف فينا.
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
وقبل أن نغادر هذا المعرض الجديد من حيث الفكرة والمضمون، لابدّ من الإشارة إلى جدية الفنان في تعامله مع الفن، وخصوصية كان دائماً باللاوعي محافظاً عليها تتعلق باختصاصه في الغرافيك وفن الكتاب المصوّر، الذي مهما حاول أن ينوّع في صياغاته واشتغاله على اللوحة التي تبقى تدور في فلك ومجال دراسته وتحصيله العلمي في الفن، الذي شمل مجال كتب الأطفال والتي له فيها ثمانية باللغتين العربية والفرنسية.
من أعمال التشكيلي بطرس المعري
بطرس المعري:
- من مواليد دمشق 1968.
- تخرج من قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة بدمشق 1991.
- 2006 دكتوراه في مجال فن الكتاب المصوّر «Echess».
- 1991 شارك في أول معرض «اللوحة الصغيرة» صالة وفاء بدمشق.
- عشرة معارض فردية في كل من دمشق باريس ولبنان.
- شارك في معارض عديدة هامة داخل وخارج سورية.
- شارك في أكثر من ندوة ولقاء دولي حول فن الكتاب.
- تجليات أوقات الفراغ صالة تجليات بدمشق 2012.
- «3 سنوات من ممارسة الفيسبوك»، كان المعرض الأحدث للفنان بطرس المعري - موضوع سطورنا - بصالة تجليات بدمشق 2015.
غازي عانا
اكتشف سورية